فصل: 2- كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.أسئلة وأجوبة:

.سؤال: في تحريم القتال في الأشهر الحُرم:

فإن قلت: إذا نُسخ تحريم القتال في الأشهر الحُرم فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع «إن دِماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حَرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا». فإن التشبيه يقتضي تقرير حُرمة الأشهر. قلت: إن تحريم القتال فيها تَبَع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلمُ محرم في كل وقت، والقتال لأجل الحق عبادة فنُسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال: {قتال فيه كبير} واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلى الله عليه وسلم الحجَّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلاّ للمسلمين وهم لا قتال بينهم، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج، فتسميته نسخًا تسامح، وإنما هو انتهاء مورد الحكم، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته، وقد تعطل حينئذٍ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلَّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم.
إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكَّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو، فإن المشركين استعظموا فعلًا واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حرامًا وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم، وأخرجوا أهل الحرم منه، وآذوهم، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعًا لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما عجبًا لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض.
ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق:
أَتَغضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا ** جِهارا ولم تغضَبْ لقتل ابن خازم

والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثمًا عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام. اهـ.

.سؤال: في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية:

فإن قلت: ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين، قلت: تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية: {ومن يكفر بالإيمان} [المائدة: 5] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية: {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} [الأنعام: 88] وآية: {لئن أشركت ليحبطن عملك} [الزمر: 65] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبْط الأعمال، ومن الخسارة بإجمال، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتدادَ المسلمين المخاطبين بالآية، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار. اهـ.

.بحوث تتعلق بالآية:

.1- الارتداد وحرية الرأي:

هل لمسلم أن يرتد عن دينه ويبقى مصون الدم؟.
كان الارتداد عن الدين جزءا من حرية العقل والضمير التي أقام الإسلام عليها دعوته، فمن شرح الله صدره بالإسلام بقى عليه وعاش فيه، وإلا خرج وكفيت جماعة المسلمين شره!.
وظل هذا الحكم قرابة عشرين سنة منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان شرطا مقررا في معاهدة الحديبية.
روى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبي فاشترطوا: أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا! فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال:، نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا.
وقد رأى المسلمون غضاضة شديدة في قبول هذا النص من المعاهدة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم- بوحى من الله- أن ينزلوا عنده، فقبلوه مكرهين، وليس أبلغ من هذا المسلك في الإبانة عن سماحة الإسلام ونزعته إلى إقرار الحرية العقلية والنفسية بين الناس أجمعين.
غير أن كيد خصوم الإسلام له استغل هذه السماحة في النيل منه، فتأمر اليهود فيما بينهم على أن يتظاهر فريق منهم بالدخول في الإسلام، فيثبتوا استعدادهم لترك دينهم القديم، ويبرءوا من تهمة التعصب له، ثم يرتدوا بعد ذلك عن الإسلام ليشيع بين جماهير الأميين أن اليهود ما هجروا الدين الجديد إلا لما استبان لهم من بطلانه وتفاهته.
{وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم}.
فهل يسكت الإسلام على هذا التلاعب؟ وهل يداويه بمنع الدخول فيه، أم يحظر الخروج منه؟.
وثم شئ آخر يتصل بمعنى الردة وأسلوب التمرد على الدين وجحد تعاليمه، قد يكفر البعض بالله في سريرتهم، فلا يعلم أحد بكفرهم، وقد يبدو هذا الكفر في تصرفات مستخفية ومواقف مائعة، وتكشف الأحداث المتتابعة عن نفاق أولئك القوم وخبث طويتهم، ومع ذلك فإن الإسلام لم يأمر بقتل هؤلاء، بل المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم رفضه الإذن بقتلهم.
ولكن الارتداد الحاسم عن الإسلام ومعالنة المسلمين بالانفصال عن الدين معالنة تنطوى على النيل من قواعده والإنكار لأصوله تشبه في أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمى وتستحق العقاب الذي تواضع الناس على رصده لهذه الجريمة المنكرة.
فإن الإسلام كان يواجه حربا تستهدف اجتثاث جذوره، حربا تريد رد جمهور المسلمين عن الدين الذي ارتضوه.
{ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.
{ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم}.
وكان المرتد المعالن يترك هذه الجبهة لينحاز بسيفه إلى الجبهة المناوئة، وربما كان أشد خطرا على الدين ممن بقوا على شركهم فلم يدخلوا الإسلام لينسلخوا عنه بعد قليل!.
فكيف يطلب من الإسلام أن يمنح هؤلاء المرتدين حق الحياة ليشاركوا في قتله.
إن المسألة هنا خرجت كل الخروج عن نطاق الحرية العقلية المنشودة، ودخلت في تحديد الدائرة التي تدفع بها الجماعة عن مصلحتها ضد الحرية الشخصية الطائشة، ويوم يصل الأمر في عصرنا هذا إلى حكم يبيح لامرئ أن يبيع وطنه، أو لفرد أن يعرض مستقبل أمة للخطر، فإننا سنبيح باسم الإسلام أن يرتد عن الإسلام من يشاء.
والصحيح أن المرتد أحق الناس بوصف الكفر وأجدرهم بالعقاب عليه فالكفر الصراح هو جحد الحق بعد معرفته، أى أنه ينشأ عن فساد في النفس لا عن قصور في العقل وهنا مناط المؤاخذة، وهل أحق بها من قوم: {يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}.
ويوم يتبين الهدى لرجل ثم تنزعه بواعث الهوى، ثم تسخره في حربه فلا جرم أن يقطع عنقه. اهـ.

.2- كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء:

من أحكام الأعمال: أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد.
قال تعالى: {ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} الآية وكالكفر بآيات الله والعناد فيه.
قال تعالى: {إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} آل عمران- 22، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفو على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} الزمر- 55، وقال تعالى: {فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} طه- 124.
وأيضا: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول، قال تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} [سورة محمد- 33]، فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات- 2].
وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة، قال تعالى: {وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} هود- 114، وكالحج، قال تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه} البقرة- 203، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم} النساء- 31، وقال تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة} النجم- 32.
وأيضا: من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل، قال تعالى: {إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك} المائدة- 29، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ.
وأيضا: من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: {ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم} النحل- 25، وقال: {وليحملن أثقالا وأثقالا مع أثقالهم} العنكبوت- 13، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها، قال تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} يس- 12.
وأيضا: من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب، قال تعالى: {إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات} الإسراء- 75، وقال تعالى: {يضاعف لها العذاب ضعفين} الأحزاب- 30، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله، قال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة} البقرة- 261، ومثله ما في قوله تعالى: {أولئك يؤتون أجرهم مرتين} القصص- 54، وما في قوله تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} الحديد- 28، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا، قال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} الأنعام- 160.
وأيضا: من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات، قال تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} الفرقان- 70.
وأيضا: من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير، قال تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين} الطور- 21، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم، قال تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم} النساء- 9.
وأيضا: من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره، ويجذب حسنات الغير إليه، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير، ويجذب سيئاته إليه، وهذا من عجيب الأمر في باب الجزاء والاستحقاق، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى: {ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم} الأنفال- 37.
وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر: أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم، وذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا، ولا يتعداه إلى غيره، ولا يتبدل بغيره، ولا ينقلب عن هويته وذاته، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير وكان زيد ضاربا لا غير، وكان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى: {وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} البقرة- 57، وقال تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله} فاطر- 43، وقال تعالى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} الأنعام- 24، وقال تعالى: {ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين} المؤمن- 74.
وبالجملة: عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه، وربما نقل الفعل وأسنده إلى غير فاعله، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شيء منه على شئ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى فيما حكاه في كتابه يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت والبرزخ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول.
قال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا ما شاء الله ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} الزمر- 70، وقد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} الآية إبراهيم- 22.
ومن هنا نعلم: أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
والذي يحل به هذه العقدة: أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية، وتمسك بالأصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والأنبياء رسلا إليهم، وأصلهم بالأمر والنهي والبعث والزجر، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.
وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم، غير أنه شيء لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى: {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} الزخرف- 4.
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد، ومن لطيف الأمر: أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة، ممكنة التوجيه بها، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي، وفي المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة، في عين أنها افعال للتابعين فيها، فهي افعال لهم معا، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل، أو حسنات الغير حسنات للإنسان، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا، وإسناد الفعل إلى غير فاعله، وجعل الفعل غير نفسه، إلى غير ذلك، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الأفهام العامة، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس، وكانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا، وسينكشف على الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق} الاعراف- 53، وقال تعالى: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} إلى أن قال: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله} يونس- 39.
وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} الزلزال- 8، وقوله تعالى: {لا تزر وازرة وزر أخرى} الأنعام- 164، وقوله تعالى: {كل امرئ بما كسب رهين} الطور- 21، وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} النجم- 39، وقوله تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا} يونس- 44، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. اهـ.